فصل: مطلب بناء الصرح وسببه والقول السائد ما اتخذ اللّه وليا جاهلا ولو اتخذه لعلمه:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.مطلب بناء الصرح وسببه والقول السائد ما اتخذ اللّه وليا جاهلا ولو اتخذه لعلمه:

{وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحًا} قصرا عاليا مرتفعا في السماء ظاهرا المرائي على بعد، وقد مرّ بيانه في الآية 38 من سورة القصص في ج 1 فراجعه تعلم ماهيته وما فعل اللّه به {لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ 36} ثم بين هذه الأسباب العظيمة فأبدل منها {أَسْبابَ السَّماواتِ} يريد أطرافها وأبوابها وكل ما أداك إلى الشيء فهو سبب كالرشاء الحبل الموصل إلى الماء في غور البئر {فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى} نصب الفعل لجواب الترجي وهو جائز عند الكوفيين كالتمني ولم يجزه البصريون، وخرجوا نصب الفعل هنا على أنه جواب للأمر وهو {ابن} وعليه قوله:
يا ناق سيري عنقا فسيحا ** إلى سليمان فتستريحا

أي سيري فتستريح، قال تعالى حاكيا قول هذا الخبيث {وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِبًا} فيما يدعيه من أن له ربا سواي، بل هو الكاذب قبحه اللّه وأرداه، قالوا إنه أراد بهذا البناء الرفيع رصد أحوال الكواكب التي هي أسباب تدل على الحوادث الأرضية، فيرى هل فيها ما يدل على رسالة موسى، لأنه كان حزاء يعرف في النجوم، وهذا يدل على أنه كان معترفا بوجود اللّه تعالى، ومما يؤيد اعترافه باللّه محاورة المؤمن له ولقومه المارة والآتية وعدم ردّه عليه هو وقومه، وكان اقتصارهم على أمر قتل موسى وعدمه مع الصفح عما يتعلق بالآلهة دليل على اعترافهم بالإله العظيم، إذ ما من أحد إلا ويعترف بوجوده، قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} الآية 26 من سورة لقمان المارة وهي مكررة كثير في القرآن بألفاظ مختلفة والمعنى واحد، وهو نسبه كل شيء للّه {كَذلِكَ} مثل هذا التزيين والصد البذيين {زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ} فانهمك فيه انهماكا لا يرتدع عنه {وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ} السوي الموصل إلى اللّه وصد قومه عنها فضل وأضلهم ومنعه اللّه من تنفيذ ما كاده لموسى {وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ 37} دمار وفساد وهلاك، ولما رأى المؤمن وجوم فرعون وقومه تجاه ما أسمعهم من التحذير والتهديد وضرب المثل فيمن قبلهم قويت شكيته فكر عليهم بالنصح والإرشاد والترغيب فيما عند اللّه تعالى لمن آمن به وصدق رسله، وصرح لهم بإيمانه باللّه وحده والدار الآخرة بما ذكر اللّه عنه وهو {وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ} فيما عرضته عليكم من الهدى ودللتكم عليه من طرق الرشاد المؤدية للخير والسداد {أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ 28} الحقيقي الموصل إلى اللّه لأن الطريق الذي يريدكم فرعون عليه هو طريق الفساد لا الرشاد وهو من أسماء الأضداد وهو يعلم ذلك إلا أن توغله في حب الرياسة وتمحضه في الأنانية والعناد وانهماكه في الشهوات أدى لتصلبه في الأمر وللتمويه عليكم في القول وليغريكم فيما يسرده عليكم لاستدامة استعبادكم وامارته عليكم فأطيعوني، وأنا الناصح الصادق البار بكم، أن تؤمنوا بموسى الذي جاء بما جاء به يوسف قبل الذي خلص أهالي مصر وغيرها من الهلاك المادي والمعنوي، وإن موسى سيخلصكم أيضا من محن الدنيا وعذاب الآخرة إذا آمنتم به، والرشاد نقيض الغي وفيه تعريض بأن ما عليه فرعون هو طريق الغي، لأن غايته التنعيم بالدنيا الفانية وأنه يريدهم للآخرة الباقية ونعيمها الدائم، وشرع يذم الدنيا ويصغرها بأعينهم فقال {يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ} يسير يتمتع بها أياما قليلة ثم تنقطع {وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ 39} الأبدي الذي لا يزول فاعملوا لها لتنالوا نعيمها فهو باق لا يزول أبدا واعملوا يا قوم خيرا إن {مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً} في هذه الدنيا {فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها} ئ سوءا في الآخرة غير جزاء الدنيا {وَمَنْ عَمِلَ صالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ} في الآخرة جزاء عملهم الحسن {يُرْزَقُونَ} من النعم الجسيمة والخيرات العظيمة {فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ 40} رزقا واسعا بلا تبعة ولا تقتير ولا إسراف ولا تقدير بمقابلة العمل بل أضعافا مضاعفة فضلا منه ورحمة، وفيها إشارة إلى عظيم فضل اللّه وشرف ثوابه ومزيد عطائه {وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ 41} في هذه الآية طلب منهم أن يوازنوا بين ما يدعونه إليه من اتخاذ الأوثان الموصلة إلى النار أندادا للّه- تعالى عن ذلك- وبين دعوته لهم إلى دين اللّه الموصل إلى الجنة ليتفكروا في هاتين الدعوتين ويميزوا بينهما ويعرفوا ثمرة كل منهما، ولهذا قال لهم {تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ} أنه إله وإني لا أعلم إلها غير الإله الواحد الحق {وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ 42} لمن أناب إليه، ذكر لهم صنفين عظيمين من صفات اللّه تعالى الذي يدعوهم لعبادته بأنه منيع غالب قوي الجانب لا يقابل ولا يغالب، فمن التجأ إليه أوى إلى ركن شديد لا يقدر أحد أن يتسلط عليه، وأنه كثير المغفرة لمن يرجع إليه فلا يهولن من يأوي إليه كثرة ذنوبه وعظيم خطأه فإنه يسترها له مهما كانت، وهو واسع المغفرة، وهذا مما قذفه اللّه في قلب هذا المؤمن الكامل من نور الإيمان والمعرفة، فجعله ينطق بالحكمة توا، إذ أبدل جهله علما وكفره إيمانا وجبنه شجاعة، ومن هنا قيل: ما اتخذ اللّه من ولي جاهلا ولو اتخذه لعلمه {لا جَرَمَ} حقا {أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} من البقاء على دينكم وعبادة الصنم الذي {لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ} مقبولة {فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ} لأنه لا ينطق حتى يدعو الناس لعبادته ومن لا يقدر على النطق لا يجيبه أحد، وإن من حق المعبود أن يدعو العباد لعبادته، فإذا لم تكن له دعوة مجابة في الدنيا فمن باب أولى أن لا تكون له في الآخرة، ولهذا عطفها عليها، لأنها فضلا عن أنها لا تجيب عابديها فيها فإنها تتبرأ منهم وتنكر عبادتهم حينما يؤهلها اللّه للنطق لهذه الغاية {وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ} جميعا نحن وأنتم {وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ} المتجاوزون حدود اللّه في استرقاق عباده السفاكين لدماء الأبرياء الغاصبين أموالهم بغير حق، فكأنه رحمه اللّه أراد أن يختم كلامه بما افتتحه وهو {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} فقال وإن المسرفين في القتل وغيره من سائر المحرمات {هُمْ أَصْحابُ النَّارِ 43} لا غيرهم لأن كل متجاوز حدود اللّه بالقتل والكفر والشرك والفواحش ومات مصرا عليها فهو من أهل النار، كما جاءت به الآيات والآثار.
ولا يقال هنا إن اللّه لا يحدد عليه، فله أن يعفو عن أمثال هؤلاء ويدخلهم الجنة، وله أن يدخل من أهل الجنة النار لأنه جل ذكره لا يسأل عما يفعل، ثم ضربهم بآخر سهم من كنانته فقال {فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ} الآن يا قوم غدا إذا لم تؤمنوا بربي وتسمعوا رشدي عند معاينتكم العذاب في الآخرة، وتندمون ولات حين مندم ولا ذكرى أقول لكم قولي هذا {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ} وحده، فإذا أردتم أن توقعوا بي شرا بعد نصحي إليكم فهو لابد منقذي منكم، ولهذا فلست بسائل عن وعيدكم وتهديدكم، فافعلوا ما شئتم، وذلك لما أطال عليهم وجاهرهم بإيمانه هددوه بالقتل أيضا إن لم يقلع عما يقوله لهم فأجابهم بأنه قد أدى ما هو واجب عليه وأنه لا يبالي بهم لأنه معتمد على اللّه، ولهذا ختم مجادلته بقوله {إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ 44} يعلم المحق من المبطل وما يؤول إليه أمري وأمركم فهموا به ليأخذوه فهرب من بين أيديهم وأعماهم اللّه عنه فطلبوه فلم يجدوه وذلك قوله تعالى: {فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا} فحال دون وصولهم إليه وحفظه من مكرهم وأذاهم {وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ} وذلك بعد أن هرب موسى بني إسرائيل ولحق بهم فرعون وجيشه حتى وصلوا إلى البحر وتراءوا وكان ما كان كما بيناه في الآية 53 من سورة الشعراء في ج 1 فراجعه، فكان عذابهم الدنيوي بالغرق، ولعذاب الآخرة أشد كما سيتلى عليك بعد هذا، ومن قال إن هذا المؤمن هو موسى قول لا قيمة له فهو أوهى من بيت العنكبوت، وكأن هذا القائل استكثر على هذا المؤمن أن يقع منه مثل هذا ولم يدر أن نظرة من بحر جوده تقلب المريض صحيحا، والأبكم فصيحا، والمجرم بريئا، والكافر وليا، والفاجر بارا، والرجس طاهرا، قال تعالى معرضا بعذاب آل فرعون الأخروي بعد أن ذكر عذابهم الدنيوي في الآية 130 من سورة الأعراف المارة في ج 1 بقوله عز قوله {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا} وهذا العرض يكون لهم في البرزخ بعد الموت، هو غير عذاب الآخرة بدليل قوله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ} يقال لخزنة جهنم {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ} أعظمه وأكبر أنواعه وأفظع ألوانه وأقبح أشكاله، ومنه إراءتهم أمكنتهم في الجنة لو كانوا مؤمنين ثم زجهم في النار حتى وصلوا إلى قعرها.

.مطلب عذاب القبر ومحاججة أهل النار وبقاء النفس والدجال:

روى البخاري ومسلم عن عبد اللّه بن عمر رضي اللّه عنهما أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال: إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشية إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، يقال هذا مقعدك حتى يبعثك للّه إليه يوم القيامة.
وفي هذا دليل ظاهر على بقاء النفس وعذاب القبر في البرزخ لا غبار عليه، لأن المراد من العرض في الآية والمقعد في الحديث هو برزخ القبر لا غير، ولأن البعث يكون منه، ولا يراد منه وجوده في الدنيا، لأنه لم يكن حاصلا فيها، ولا يقال إنه خاص بآل فرعون لأنه إذا ثبت في حقهم ثبت في غيرهم، إذ لا قائل في الغرق، تدبر.
وقد أخرج ابن أبي شيبة وهناد وعبيد بن حميد عن هذيل بن شرحبيل أن أرواح آل فرعون في أجواف طير سود تغدو وتروح على النار، فذلك عرضها.
وأخرج عبد الرزاق وابن أبي حاتم عن ابن مسعود نحو ذلك، وهذه الطير صور يخلقها اللّه تعالى من صور أعمالهم كما يخلق لتمثيل أرواح الشهداء طيرا خضرا ترتع في الجنة لتنعم في البرزخ قبل نعمة الآخرة.
ويؤيد هذا، الحديث الوارد، القبر إما روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار.
وأحاديث أخرى في هذا المعنى، وهذا البحث صلة في الآية 24 من سورة نوح الآتية إن شاء اللّه، واللّه على كل شيء قدير.
ومما يشهد لهذا ما أخرجه ابن المنذر والبيهقي في شعب الإيمان وغيرهما عن أبي هريرة أنه كان له صرختان في كل يوم غدوة وعشية كان يقول أول النهار ذهب الليل وجاء النهار وعرض آل فرعون على النار، ويقول أول الليل ذهب النهار وجاء الليل وعرض آل فرعون على النار، فلا يسمع أحد صوته إلا استعاذ باللّه تعالى القائل عز قوله {وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا} في الدنيا {فَهَلْ أَنْتُمْ} الآن {مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا} حصة وجزءا {مِنَ النَّارِ 47} بأن تدفعوا عنا ألمها ولو ساعة لقاء ما كنا نخدمكم في الدنيا وننقاد لأمركم بمخالفة الرسل {قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا} لأتباعهم المستضعفين {إِنَّا كُلٌّ فِيها} فلا نستطيع أن ندفع عن أنفسنا فكيف يمكننا أن نتحمل عنكم قسما من عذابها فاسكتوا {إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ 48} ولا راد لحكمه ولا دافع لقضاءه {وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ} لما اشتد عليهم البلاء فيها هلم {ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذابِ 49} لنستريح فيها من ألمها المبرح {قالُوا} لهم {أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ} وينذرونكم أيها الكفرة لقاء يومكم هذا ويحذرونكم وباله؟ {قالُوا بَلى} جاءونا ونصحونا وخوفوها هول هذا اليوم وعذابه ولكنا كذبناهم {قالُوا} لهم {فَادْعُوا} أنتم لأنفسكم لا ندعو لكم نحن لأنكم لا عذر لكم بعد أن بلغكم الرسل ذلك، ولم تصغوا لإرشادهم.
قال تعالى قاطعا لأطماعهم {وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ 50} لا يسمع ولا يجاب لأنه عبث باطل دعوا أو لم يدعوا.
ثم ذكر ما يغيظهم ليزدادوا غما فقال {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا} بإعلاء كلمتهم على مجادليهم وتوفيقهم إلى الحجج الظاهرة والبراهين القاهرة والدلائل الباهرة مع النصر الفعلي على أعدائهم في الدين كما نوهنا به في الآية 103 من سورة يونس والآيتين 172- 173 من سورة الصافات المارات وله صلة في الآية 47 من سورة الروم الآتية وَإنا نحن الإله القادر كما ننصرهم في الدنيا سننصرهم {يَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ 51} من الحفظة والأصفياء والكتب وغيرها فيشهدون على الأمم بما فعلوا في الدنيا وتكذيبهم للرسل وفيه تشهد الأمم الصالحة للرسل على أنهم بلغوا أممهم فكذبوهم ويكون لهم هذا النصر أيضا {يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ} لأنهم اعذروا في الدنيا بالإنذار من قبل الرسل والدنيا هي محل قبول العذر، أما الآخرة فلا اعتذار فيها ولا إنذار بل يكون لهم فيها التوبيخ والتقريع واللوم {وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ} أيضا وهي الطرد من رحمة اللّه والبعد عنه {وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ 52} جهنم وبئست الدار هي.
ولفظة يوم الأخيرة بدل من الأولى لأنه حال قيام الأشهاد لا تنفع المعاذير، قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى} بجميع وسائله {وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ} ليهتدوا به ويعملوا بمقتضاه بحياته وبعد وفاته لأنا جعلناه {هُدىً} للناس، لأن التوراة المعبر عنها بالكتاب هنا أجمع كتاب أنزل من بدء الخليقة حتى نزول القرآن العظيم، لأنه الجامع لكل ما في الكتب المتقدمة عليه {وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ} يتذكرون بها، لأن ذوي القلوب الواعية هم أهل التذكر والتفكر فيها، وعلى هذا فإن قومه لم يعملوا بها ومن عمل منهم بها كان مرغما، وقد هجروها من بعده ولم يتقيدوا بوصاياها وأهملوا أحكامها وغيروا وبدلوا قسما منها.
ثم التفت إلى حبيبه محمد وخاطبه عزّ خطابه بقوله {فَاصْبِرْ} يا سيد الرسل على أذى قومك وتحمل جفاهم ولا يهمنك عدم سماعهم لقولك وما تتلوه عليهم من كتابك، فقد صبر قبلك الرسل إخوانك على أقوامهم حتى أتاهم الوقت المقدر لعذابهم، وأنت اصبر إلى أن يحين عذابهم الذي وعدناك به {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ} بإظهار دينك وإعلاء كلمتك ونصرتك عليهم وإهلاكهم {حَقٌّ} منجز لا يخلف عن موعده المقدر له {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} الذي تراه ذنبا بالنسبة لمقامك، وإن لم يكن ذنبا بالنسبة لأمتك كترك ما عمله أولى وأفضل، وهذا من قبيل التعبد لزيادة الدرجات له صلّى اللّه عليه وسلم ولتستنّ أمته بذلك، وقدمنا بأن الذي يعد ذنبا على الأنبياء هو من قبيل حسنات الأبرار سيئات المقربين، وأوضحنا ذلك في الآية 65 من سورة الزمر المارة وغيرها، وهذا الاستغفار أحد قسمي الطاعة وهي التوبة عما لا ينبغي فعله، والقسم الثاني الاشتغال بما ينبغي فعله، وهو قوله تعالى قوله {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ 55} بعد التوبة لأن التوبة من قبيل التخلية، والتسبيح بعدها من قبيل التحلية، والتحلية تكون عادة بعد التخلية.